استهلّ ثيودور أدورنو بتطوير نظريّته حول "صناعة الثقافة" قبل 70 عاماً، ولم يتوقّف النقاش حول الموضوع منذ ذلك الوقت. في الجزء الأول من المقال كوّنا سياقاً فكريّاً لما يطرحه أدورنو في الدراسة التالية. حيث ركّز أدورنو في دراساته النظريّة الموسيقيّة على تفكيك الموسيقى الجماهريّة أو التجاريّة التي سمّاها بالخفيفة، على أنّها منتج إستهلاكي يعيد إنتاج الواقع من دون مساءلته أو الدفع باتّجاه تغييره. أحد هذه النصوص هو مقاله "الموسيقى الجماهيريّة في المجتمع الرأسمالي" والذي نشر عام 1941، والذي قمنا بترجمته للعربيّة في ملف "عن الموسيقى وصناعتها العربيّة".
الموسيقى الجماهيريّة في المجتمع الرأسماليّ (1)
ثيودور أدورنو بمساعدة، مع جورج سيمبسون
أوّلاً: المادّة الموسيقيّة
مجالا الموسيقى الاثنان
ما يميّز الموسيقى الجماهيريّة عادةً، تلك التي تقوم بإنتاج المحفزّات التي نحن بصدد التحقّق منها هنا، اختلافها عن الموسيقى الجادّة. وبشكل عام، هذا الاختلاف مفروغ منه، ويُنظر إليه على أنّه اختلاف المستويات التي تعتبر أنّه تم تعريفها بشكل محدّد جداً، لدرجة أن معظم الناس يعتبرون أن القيم في هذه المستويات مستقلّة بشكل كامل عن بعضها الآخر. ومع أنّنا نرى أهمّيتها، إلّا أنّه علينا، في المقام الأول، ترجمة تلك التي تسمّى بالمستويات إلى مصطلحات موسيقيّة واجتماعيّة أكثر دقّة. والتي لا تعيّن حدودها بشكل غير ملتبس فقط، إنّما تلقي الضوء على الضوابط الكاملة للمجالين الموسيقيين أيضاً.
إحدى الطرق المحتملة لتحقيق هذا التوضيح سيكون عبر تحليل تاريخي للانقسام كما لو أنّه حدث في الإنتاج الموسيقيّ، وعلى جذور المجالين الرئيسيين. وإذا كانت، على أيّ حال، الدراسة الحاليّة معنيّة بالوظيفة الفعليّة للموسيقى الجماهيريّة في وضعها الحاليّ، فمن المستحسن اتّباع خط توصيف الظاهرة ذاتها في وضعها الحاليّ كما لو أنّها حدثت اليوم، بدلاً من تخطّي أثرها إلى أصلها. وهذا أكثر ما يبرّره، كما لو أن انقسام الموسيقى إلى مجالين، والذي حدث في أوروبا قبل نشوء الموسيقى الجماهيريّة الأميركيّة بوقت طويل. تقبّلت الموسيقى الأميركيّة، منذ بدايتها، هذا الانقسام كما لو كان شيئاً مفترض مسبقاً. ولذلك، لا تنطبق عليها الخلفيّة التاريخيّة للانقسام إلّا بشكل غير مباشر. بالتالي، نحن نسعى، قبل كل شيء، إلى إلقاء نظرة فاحصة على الخصائص الأساسيّة للموسيقى الجماهيريّة بمعناها الأوسع.
لا يمكن الوصول إلى حكم واضح بما يتعلّق بعلاقة الموسيقى الجادّة والجماهيريّة سوى عبر الاتنباه الصّارم إلى خاصّية الموسيقى الجماهيريّة الأساسيّة: التنميط (*). كل هيكل الموسيقى الجماهيريّة منمّط، حتى لدى محاولة التحايل على التنميط. يمتد التنميط من السمات الأكثر عموميّة إلى أكثرها تحديداً. وأشهرها قاعدة تكوّن الجوقة من 32 فاصل موسيقي (2)، وبأن نطاق توسّع الصوت (3) محدّد بأوكتاف واحد (4) وعلامة موسيقيّة (نوتة) واحدة. الأنواع العامة للأغاني التي تحقّق شهرةً واسعة تتبع مقياساً واحداً أيضاً: ليس فقط أنواع الرقص، أو الجمود المستوعب من هذا النمط، بل أيضاً "الشخصيّات"، مثل: أغاني الأمّهات، وأغاني المنازل، وأغاني الهراء- أو Novelty- الأغاني الكوميديّة (5)، الأغاني شبه الهدهدة، مراثٍ لضياع فتاة. أهم من ذلك كله: التحجّر المتناغم لكل أغنية جماهيريّة- بداية ونهاية كل قسم- التي يجب أن تطابق المخطّط الأساسيّ. يؤكّد هذا المخطّط على الحقائق التوافقيّة الأكثر بدائيّة، بغض النظر عن المداخلات التوافقيّة: إنها مضاعفات بدون عواقب. يضمن هذا الجهاز الذي لا يرحم أنّه بغض النظر عن حدوث الانحرافات، ستعيدنا الأغنية الرّائجة إلى ذات التجربة المألوفة، ولن يتم تقديم أي شيء جوهريّ جديد.
التفاصيل ذاتها منمّطة بطريقة لا تقل عن الشّكل، وجميع المصطلحات بالنسبة إليها موجودة على شكل فاصل (6) كوردات زرقاء (7)، وعلامات موسيقيّة قذرة (8). رغم ذلك، فإن تنميطها مختلف بشكل ما عن تنميط بنية العمل. إذ أنّها ليست علنيّة مثل الأخيرة، بل متخفيّة وراء قشرة من "المؤثّرات" الفرديّة التي يتم التعامل معها على أنّها سرّ المهنة. رغم ذلك، فإن كشف هذا السر ربما يكون على عاتق الموسيقيين بشكل عام. هذه الشخصيّة المتباينة للتنميط للكل والجزء توفّر حالة قاسية وأوليّة للتأثير على المستمع.
يبرهن التأثير الرئيسي لهذه العلاقة، بين مبنى العمل والتفصيل الذي يصبح المستمع عرضةً له، على ردود أفعال أقوى للجزء أكثر من الكلّي. إذ لا يقبض المستمع على الكل في التجربة الحيّة لتلك القطعة الموسيقيّة المتحجّرة التي يتبعها. فالكلّي مفترض مسبقاً ومقبول مسبقاً حتى قبل التجربة الفعليّة لبداية الموسيقى: لذلك، ليس من المحتمل أن يؤثّر رد الفعل على التفاصيل، إلى حدٍّ كبير، إلّا عبر منحهم درجات متفاوتة من التوكيدات. تمتلك التفاصيل التي تحتل مواقع موسيقيّة استراتيجيّة في مبنى العمل: بداية الجوقة أو دخولها مّرة أخرى بعد الجسر (9)، فرصةً أفضل للاعتراف بها واستقبالها بحظوة من التفاصيل التي تقع في غير محلها. مثلاً: خانات منتصف الجسر. لكن هذه العلاقة الظرفيّة لا تتداخل مع المخطّط نفسه. فإلى هذه الحد من الظرفيّة المحدودة يعتمد التفصيل على الكلي. لكن لا يتم فرض هذا التوتّر على الكل كحدث موسيقيّ، وكذلك لا يعتمد هيكل الكليّ أبداً على التفاصيل.
ربّما هكذا، لأغراض مقارنويّة، تميّزت الموسيقى الجادّة: حيث يستمد كل تفصيل معناه الموسيقيّ من الكليّة الملموسة للقطعة التي تتكوّن، بدورها، من العلاقة الحيّة للتفاصيل، وليس من مجرّد فرض للمخطّط الموسيقيّ نهائيّاً. فعلى سبيل المثال: بمقدمة الحركة الأولى لسيمفونيّة بيتهوفن السابعة، لا يأخذ الموضوع الثاني "دو ماجور" معناه الحقيقيّ إلا من السياق. ولا يكتسب جودته الغنائيّة والتعبيريّة إلا عبر الكلّي- وهو في النهاية كلٌّ بني من التباين الكبير مع شبه (Cantus firmus) (10)، كميّزة للموضوع الأوّل. بمعزل عن الموضوع الثاني الذي سيتم تعريته لعرض تافه. يمكن إيجاد مثال آخر في بداية التلخيص على نقطة الدوّاسة للحركة الأولى من مقطوعة Appasionata لبيتهوفن. فعبر اتّباع الفورة السابقة، يتحقّق أقصى الزخم الدراميّ. فمن خلال حذف الاستعراض والتطوّر، وبدءاً من هذا التكرار، يتم فقدان كل شيء.
لا يمكن أن يحدث ما يعادل ذلك في الموسيقى الجماهيريّة. فلن يؤثّر إخراج أي تفصيل عن سياقه على الحسّ الموسيقيّ: إذ يستطيع المستمع أن يزوّد "الإطار" بشكل تلقائيّ نظراً لأنّه [الإطار] نفسه تلقاءويّ موسيقيّ مجرّد، فبداية الجوقة قابلة للاستبدال ببداية الجوقات الأخرى التي لا حصر لها. ولن يتأثّر الترابط بين العناصر أو العلاقة بين العناصر والكلّي. الموقع مهم لدى بيتهوفن فقط في علاقة حيّة بين الكلّي الملموس وأجزائه الملموسة. لكن في الموسيقى الجماهيريّة، الموقع حتميّ. إذ يمكن استبدال كل تفصيل، من حيث أنّه يحقّق وظيفته فقط كمفصل في ماكنة.
مجرّد إنشاء هذا الاختلاف ليس كافٍ حتى الآن. إذ من الممكن الاعتراض على أن المخططات الأساسيّة البعيدة وأنواع الموسيقى الجماهيريّة مرتبطة ارتباطاً عضويّاً بالرقص، وبالتالي تنطبق أيضاً على اشتقاقات الرّقص في الموسيقى الجادّة. مثال على ذلك: minuetto و(scherzo (11 لدى مدرسة الكلاسيكيّات في فينّا. إذ ربّما يمكن الحفاظ عليه إمّا من خلال أن يكون هذا الجزء من الموسيقى الجادّة، أيضاً، مفهوماً من حيث التفصيل وليس من حيث الكل، أو أنّ الكل لا يزال يمكن إدراكه بأنواع الرقص في الموسيقى الجادّة على الرّغم من تكرّر هذه الأنواع. لذلك، ليس هناك سبب لئلّا يتم إدراكه في الموسيقى الجماهيريّة المعاصرة.
يوفّر الاعتبار التالي جواباً للاعتراضين عبر إظهار الاختلافات الجذريّة، حتى عندما توظّف الموسيقى الجادّة أنواع الرقص. فوفقاً للآراء الشكلانيّة الحاليّة، فإنّه يمكن اعتبار scherzo السيمفونيّة الخامسة لبيتهوفن كـ" مونويوتتو" مبسّطة للغاية. وما يأخذه بيتهوفن من خطّة الـ"مونويوتتو" التقليديّة في هذا الـscherzo هو فكرة التباين الصريح بين الماينور "مونويوتتو"، وmajor trio، وتكرار الماينور "مونويوتتو"، وأيضاً بعض الخصائص الأخرى مثل الإيقاع ثلاث أرباع المؤكّد عليه والذي يتم إبرازه في كثير من الأحيان في الربع الأول، وبين التماثل الكبير الذي يشبه الإيقاعات الرّاقصة في سلسلة من البارات والفترات الزمنيّة. لكن الشكل- الفكرة المحدّدة لهذه الحركة ككلّ صلب يقوم بتحويل قيم الأجزاء المقترضة من مخطّط "مونويوتتو". يُنظر إلى هذه الحركة على أنّها مقدّمة للنهاية، لخلق توتّر هائل، ليس فقط عبر تهديدها وإنذاريّتها التعبيريّة، ولكن حتى من خلال نفس الوسيلة التي يتم فيها تداول التطوير الشكلي.
يتطلّب مخطّط الـ"مونويوتتو" الكلاسيكيّ أوّلاً شكل الموضوع الأساسي، ثم مقدّمة الجزء الثاني الذي قد يقود إلى مساحات مقاميّة أبعد- شكلانيّة متماثلة، وللتأكّد: إلى "الجسر" في موسيقى اليوم الجماهيريّة- وأخيراً: التأكيد على الجزء الأصلي عبر تكراره. يحدث كل هذا لدى موسيقى بيتهوفن: إذ تستغرق فكرة ثنائيّة المواضيعيّة داخل جزء الـscherzo. لكنّه يفرض ما كان، في الـ"مونويوتتو" التقليدي، قاعدة لعبة صامتة وبدون معنى للتواصل مع المعنى. يحقّق بيتهوفن اتّساقاً كاملاً بين المبنى الرسمي ومحتوياته المحدّدة: ما يعني: إعداد مواضيعها. يتكوّن جزء الـscherzo في هذا الـscherzo (بمعنى ما يحدث قبل مدخل الوتريّات العميق بالـ"دو ماجور" والتي تمثّل بداية التريو) من ثنائيّة موضوعين: شخصيّة الوتريّات المريبة، و"الهدف": الإجابة الصلبة كحجر لآلات النّفخ. لا تتطوّر هذه الثنائيّة عبر طريقة تخطيطيّة بحيث يتم إعداد جملة الوتريّات أوّلاً، ثم جواب آلات النفخ، وبعدها يتم تكرار موضوع الوتريّات آليّاً. إلا أنّه بعد الظهور الأول للموضوع الثاني في آلات الهورن، يترابط العنصران الأوّلان بالتناوب كما لو أنّهما في حوار، ولا تتمثّل نهاية جزء الـscherzo عبر الموضوع الأوّل، بل الثاني الذي يطغى على الجملة الموسيقيّة الأولى.
علاوة على ذلك، فإن تكرار الـscherzo، بعد تحقّق التريو بشكل مختلف تماماً، يبدو كما لو أنّه ظل مجرّد للـscherzo مفترضاً أن الشخصيّة التي يتكرّر ظهورها، وتختفي فقط عبر المدخل التوكيدي للموضوع النهائي. الجسم كلّه قد أصبح حيويّاً، وليس فقط الموضوعات، بل الشكل الموسيقي ذاته قد تعّرض للتوتّر ذاته الذي تمّت برهنته سلفاً عبر شقّي مبنى الموضوع الأول الذي يتكوّن، كما كان، من القرار والجواب، ثم أكثر وضوحاً داخل المحتوى بين الموضوعين الرئيسيين. أصبح كل المخطط معرّضاً للتطلّبات المتأصّلة لهذه الحركة المعيّنة.
وتلخيصاً للاختلافات: يحتوي التفصيل الافتراضي لدى بيتهوفن والموسيقى الجادّة الجيّدة عموماً- نحن لا نهتم هنا بالموسيقى الجّادة السيّئة التي قد تكون جامدة وآليّة كما الموسيقى الجماهيريّة- الكل، ويقودنا إلى غرض الكل. بينما، وفي نفس الوقت، يقوم بإنتاج مفهوم الكلّي. العلاقة، في الموسيقى الجماهيريّة، تحسينيّة: إذ ليس للتفصيل تأثير على الكليّات، والتي تظهر على أنّها إطار دخيل. وبالتالي: لا يتم تغيير الكل نهائيّاً عبر الحدث الفردي، ليبقى، بذلك، كما كان، معزولاً ومرابطاً، ومن دون أن يلاحظه أحد أثناء المقطوعة. في نفس الوقت، يتم تشويه التفصيل عبر جهاز لا يمكنه التأثير أو التغيير نهائيّاً، بحيث يبقى التفصيل غير منطقيّ. بذلك، يصبح التفصيل الموسيقيّ، الذي لا يسمح له بالتطوّر، صورة كاريكاتوريّة لإمكانيّاته الخاصّة به.
ثانياً: التنميط
يُظهر النّقاش السابق إمكانيّة القبض على الفرق بين الموسيقى الجماهيريّة والجادّة بشروط أكثر دقّة من التي تشير إلى المستويات الموسيقيّة، مثل: "وضيعة، ورفيعة الثقافة"، و"بسيطة، ومعقّدة"، و"ساذجة، ومتمرّسة". على سبيل المثال، لا يمكن التعبير عن الفرق بين المجالين الموسيقيّين بشكل كافٍ من خلال شروط التعقيد والبساطة. جميع أعمال مدرسة فيّنا الكلاسيكيّة المبكّرة، بدون استثناء، أبسط إيقاعيّاً من التوزيعات التجاريّة للجاز. لحنيّاً، المسافات الصوتيّة (12) الواسعة في عدد من الأغاني الرّائجة الجيّدة، مثل أغنيتيّ Deep Purple وSunrise Serenade أكثر صعوبة للمتابعة بحد ذاتها من معظم ألحان هايدن على سبيل المثال، والتي تتكوّن، بشكل رئيسيّ، من حدود مقيّدة من (tonic triads (13، وخطوات ثانية. تناغميّاً، تزويد الكوردات لما يسمّى بالكلاسيكيّ هو دوماً أكثر محدوديّة من أي مؤلّف Tin Pan Alley (14 حالي والذي يستمدّ ألحانه من ديبوسي ورافيل، وحتى مصادر لاحقة أخرى. التنميط وعدمه هي الشروط التناقضيّة الرئيسيّة للاختلاف.
يهدف تنميط الهيكل إلى ردود فعل نمطيّة. الاستماع إلى الموسيقى الجماهيريّة عمليّة متلاعب بها، ليس فقط من قبل المروّجين لها، بل، كما لو كانت طبيعة الموسيقى المتأصّلة ذاتها، ضمن نظام من آليّات الاستجابة العدائيّة بشكل كامل للمثال الأعلى للفرديّة في مجتمع حر وليبراليّ. ليس لذلك علاقة بالبساطة والتعقيد، ففي الموسيقى الجادّة، كل عنصر موسيقيّ، حتّى أبسطها، هو "ذاته"، وكلّما كان العمل منظّماً بشكل أفضل، قلّ احتمال التبديل بين التفاصيل. مع ذلك، في الموسيقى الرّائجة، فإن البنية الأساسيّة للعمل مجرّدة، وتتواجد بشكل مستقل عن المسار المعيّن للموسيقى. وهذا هو أساس وهم أن تناغمات معقّدة معيّنة قابلة للفهم بشكل أسهل في الموسيقى الجماهيريّة من نفس التناغمات في الموسيقى الجادّة. لا تعمل التعقيدات في الموسيقى الجماهيريّة كـ"ذاتها، بل فقط كوسيلة للتنكّر أو الزّخرفة وراء ما يمكن النظر إليه على أنّه المخطّط. يستطيع المستمع الهاوي للجاز استبدال المعادلات الإيقاعيّة أو التناغميّة بالسمة الأساسيّة التي تمثّلها، وبما تقترحها، بغض النّظر عن مستوى مجازفتها الظاهر. تتعامل الأذن مع صعوبات الأغاني الرّائجة عبر تحقيق تبديلات طفيفة مستمدّة من معرفة الأنماط. لا يسمع المستمع، عندما يواجه بالتعقيدات، إلا البسيط الذي يقدّم ويحافظ على المعقّد فقط كتشويه اقتباسي عن البسيط.
لا وجود لمثل آليّات الاستبدال هذه عبر أنماط مقولبة في الموسيقى الجادّة. هنا، حتى أبسط حدث يحتاج إلى جهد للقبض عليه مباشرة بدلاً من تلخيصه بشكل مبهم وفقاً للمواصفات المؤسّسيّة القادرة على إنتاج تأثيرات مؤسّسيّة فقط. وإلا، فالموسيقى ليست "مفهومة". رغم ذلك، فيتم تأليف الموسيقى الجماهيريّة بالطريقة التي تتم فيها عملية ترجمة المتفرّد إلى الطبيعي، مخطّط لها سلفاً، وإلى حد معيّن، متحقّقة داخل العمل المؤلَّف ذاته.
العمل المؤلّف يقوم بدور الاستماع بدلاً عن المستمع. هذه هي الطريقة التي تجرّد فيها الموسيقى الجماهيريّة المستمع من عفويّته، وتروّج استشفافات مشروطة. ليس لأنّها فقط لا تتطلّب جهده لمتابعة تيّارها الملموس، بل تمنحه، في الواقع، النماذج التي بموجبها يمكن أن يتم تصنيف أي أمر ملموس قائم. يملي التراكم التخطيطي الطريقة التي يجب على المستمع الاستماع بها، بينما، وفي نفس الوقت، تجعل من أي جهد للاستماع غير ضروريّ. الموسيقى الجماهيريّة "مهضومة مسبقاً" بطريقة تماثل كثيراً موضة "هضم" المواد المطبوعة. إنّه هيكل الموسيقى الجماهيريّة المعاصرة المسؤول، في التحليل الأخير، عن تلك التغييرات في عادات الاستماع. والتي سنناقشها لاحقاً.
تم اعتبار تنميط الموسيقى الجماهيريّة حتى الآن من حيث الهيكليّة- وهذا هو، جودة متأصّلة من دون إشارة صريحة إلى عمليّة الإنتاج، أو إلى الأسباب الكامنة للتنميط. فعلى الرّغم من أن إنجاز الإنتاج الصناعي الشموليّ يتم ضمن التنميط بالضرورة، يمكن تسمية إنتاج الموسيقى الجماهيريّة بـ"الصناعيّة" فقط عبر ترويجها وتوزيعها، في حين أنّ فعل إنتاج أغنية رائجة لا يزال في مرحلة الحرفة اليدويّة. يتمركز إنتاج الموسيقى الجماهيريّة في منظّمتها الاقتصاديّة، لكنّها لا تزال "فردانيّة" في الشكل الاجتماعي للإنتاج. تقسيم العمل بين المؤلّف، ومحرّر الموسيقى والموزّع ليس صناعيّاً، بل يتظاهر بالتصنيع كي يظهر بمظهر معاصر، في حين أنّه في الواقع تبنّى أساليب صناعيّة لتقنيّة ترويجه. وإذا لم يتّبع المؤلّفون العديدون للأغنية الرّائجة نموذجاً نمطيّاً معيّناً، لا تزداد كلفة الإنتاج. ولذلك، يجب البحث عن أسباب أخرى للتنميط الهيكلي- أسباب مختلفة جداً عن التي تمثّل تنميط سيّارات بمحرّك وطعام الإفطار.
تقدّم المحاكاة دوراً رئيسيّاً للتعامل مع أسبابها الرئيسيّة. تم تطوير التنميط الموسيقي للموسيقى الجماهيريّة في الأصل من خلال عمليّة تنافسيّة. فبينما تسجّل أغنيّة واحدة معيّنة نجاحاً كبيراً، تنطلق مئات الأغاني الأخرى لمحاكاة الأغنية الناجحة. حيث تم تقليد معايير الأغاني الرّائجة الأكثر نجاحاً، والنّسب بين العناصر، وحيث تُوِّجت العمليّة في بلورة المعايير. في ظلّ شروط مركزيّة كالموجودة اليوم، أصبحت هذه الأنماط "مفرزنة" (**). وهذا يعني أنّه تم الاستيلاء على هذه المعايير من قبل قوى احتكاريّة، وهي النتائج الأخيرة للعمليّة التنافسيّة، وإنفاذها بصرامة على المادّة التي ينبغي ترويجها، ليصبح عدم الامتثال لقواعد اللعبة أساس الإقصاء. وتطوّرت الأنماط الأصليّة التي تم تنميطها الآن بطريقة أقل أو أكثر تنافسيّة، وقام التركيز الاقتصادي ذو النطاق الواسع بمأسسة التنميط، وجعله أمراً إلزاميّاً. وبالنتيجة، تم حظر ابتكارات الفردانيّون الغليظون. وأصبحت الأنماط المنمّطة تستثمر مع المناعة من الضخامة- "يمكن للملك أن يخطئ". وهذا المسؤول أيضاً عن النّهضات/ الانبعاثات في الموسيقى الجماهيريّة. إذ لم يكونوا يمتلكون الشخصيّة البالية للمنتجات المنمّطة والتي تم تصنيعها بعد تواجد نمط معيّن. لا تزال لمحة التنافس الحر موجودة داخلها. في الجانب الآخر، تعيّن الأغاني الرّائجة القديمة التي يتم إحياؤها الأنماط التي أصبحت منمّطة: إنّها تمثّل العصر الذهبي لقواعد اللعبة.
يتم فرض "فرزنة" هذه المعايير اجتماعيّاً من خلال القوى ذاتها. إذ على الموسيقى الجماهيريّة أن تفي، بشكل عفويّ، مطلبين، الأوّل: المحفزّات التي تثير انتباه المستمع، والثّاني: المواد التي تندرج في التصنيف الذي يمكن أن يسمّيه المستمع غير المدرّب موسيقى "طبيعيّة": وهذا يعني أنّ المجموع الكلّي لجميع صيغ المواد والاتفاقيّات في الموسيقى الذي اعتاد المستمع عليها ويعتبر أنّها متأصّلة، لغة الموسيقى البسيطة ذاتها، وبعض النّظر عن تأخّر التطوّر الذي قد أنتج هذه اللغة الطبيعيّة. تنبع هذه اللغة الطبيعيّة بالنسبة للمستمع الأميركيّ من تجربته الموسيقيّة المبكّرة، أغاني الهدهدة، التراتيل التي يغنّيها في مدرسة الأحد، الألحان البسيطة التي يصفّر بها في طريقة من المدرسة إلى المنزل. كلّ هذا أكثر أهميّة إلى حد كبير في تشكيل اللغة الموسيقيّة من قدرته على تمييز مقدّمة السيمفونيّة الثالية لبرامز من سيمفونيّته الثانية. ثقافة الموسيقى الرّسميّة هي، إلى حد كبير، البنية الفوقيّة المجرّدة للغة الموسيقيّة الكامنة، أي: مقاميّة tonality المايجر والماينر وجميع العلاقات tonal المفترضة. لكن هذه العلاقات tonal للغة الموسيقيّة البدائيّة تحدّد الحواجز لكل ما لا يتوافق معها. إذ يتم التسامح مع الغلو فقط بقدر ما يمكنه إعادة صياغته إلى ما يسمّى باللغة الطبيعيّة.
من حيث طلب المستهلك، تنميط الموسيقى الجماهيريّة ليست سوى تعبير عن هذا المبتغى المزدوج المفروض عليها من قبل الإطار الموسيقي لذهن الجمهور العام- أن يكون "تحفيزيّاً" عبر الانحراف بطريقة ما عن "الطبيعي" المؤسّس/ الرّاسخ، وأن يحافظ على تفوّق الطبيعي مقابل هكذا انحرافات. يتعزّز موقف الجماهير تجاه اللغة الطبيعيّة عبر الإنتاج المنمّط، والذي يمأسس الرّغبات التي قد تأتي أصلاً من الجمهور.
النص الأصلي (ترجم منه الجزء الأوّل والثاني)
[ اضغط/ي هنا للجزء الأول من المقال]
[نشر المقال للمرة الأولى في مجلة "معازف" وجدلية تعيد نشره بالاتقاق مع المجلة]
هوامش المقال
(*) لم تنج أهميّة التنميط الأساسيّة تماماً من مجال انتباه الأدب المعاصر حول الموسيقى الجماهيريّة. "الفرق الكبير بين أغنية شعبيّة أو منمّطة وأخرى جدّية. في أغانٍ مثل Mandalay، أو Sylvia أو Trees، فإنّ لحن وكلمات أغنية شعبيّة مبنيّة ضمن نمط محدّد أو شكل هيكلي. في حين أن القصيدة أو الكلمات في أغنية منمّطة لا تحتوي على قيود هيكليّة، وتتحرّر الموسيقى لتفسيرها. بكلمات أخرى، الأغنية الجماهيريّة "مبنيّة حسب الطلب"، بينما تسمح الأغنية المنمّطة للمؤلّف بحريّة خيال وتأويل أكبر. (Abner Silver and Robert Bruce, How to Write and Sell a Song Hit. New York, 1939, p. 2).
فشل المؤلّفان، مع ذلك، في إدراك الشخصيّة التجاريّة، المفروضة من الخارج، للأنماط التي تهدف إلى ردود فعل مقنّاة، أو بلغة الإعلانات المنتظمة لبرنامج إذاعي معيّن: "easy listening" – الاستماع السهل. يخلط المؤّلفان بين الأنماط الآليّة والأشكال الفنيّة الصّارمة ذات الدرجة العالية من التنظيم: "هناك، بالتأكيد، عدد قليل من أشكال أبيات الشعر في القصيدة أكثر صرامة من السوناتة. ومع ذلك، فإن أعظم الشعراء في كافة العصور نسجوا الجمال غير الفاني ضمن إطارها الصغير والمحدود. يمتلك المؤلّف نفس القدر من الفرص لإثبات موهبته وعبقريّته في الأغاني الجماهيريّة، كما في الموسيقى الأكثر جديّة". (صفحات 2-3).
هكذا تبدو النماذج المنمّطة للموسيقى الجماهيريّة لهما افتراضيّاً على نفس مستوى قانون الـFugue. هذا هو التلوّث الذي يجعل من النظرة المتفحّصة للتنميط الأساسي للموسيقي الجماهيريّة عقماً. إذ كان لا بد من إضافة أن ما يسمّيه المؤلّفان بـ"أغنية منمّطة"، هو عكس ما نعنيه بـ"الأغنية الجماهيريّة المنمّطة" تماماً.
هوامش المترجم
(1) تم استخدام مصطلح الجماهيريّة لترجمة Popular لتوحيد المصطلحات، وللتفرقة ما بين دلالات الموسيقى الجماهيريّة والرّائجة/ السائدة Hit Music، والشعبيّة Pop Music. كما تمّت الإشارة إلى الموسيقى التجاريّة (الخفيفة) حسب ورودها في النص الأصلي.
(2) البار (Bar): فاصل موسيقي يقسّم الموسيقى المنوّطة (المكتوبة) إلى أقسام متساوية القيم الزمنيّة.
(3) نطاق توسّع الصوت (Range): المسافة بين أعلى وأدنى نغمة.
(4) الأوكتاف (Octave): المسافة بين النغمة الأولى والثامنة في تتابع درجات السلّم الموسيقي.
(5) Novelty: أغانٍ كوميديّة ذات طابع تجاري إعلاني ترفيهي ظهرت في بداية القرن العشرين.
(6) فاصل(Break): وصلة لآلة موسيقيّة أو إيقاع يتم عزفها في الأغنية كاستراحة خارج مكوّناتها.
(7) كوردات زرقاء (Blue Chords): هي كوردات أي ثلاثة نغمات أو أكثر تعزف سويّاً وذات مبنى ومعايير تناغميّة تميّز موسيقى البلوز.
8) علامات موسيقيّة قذرة (Dirty notes): يلمّح أدورنو هنا إلى موسيقى الجاز الذي اتّخذ منها موقفاً حادّاً في البداية بوصفه إيّاها على أنها بربريّة وقائمة على العلامات الموسيقيّة القذرة، الخارجة عن القوالب الكلاسيكيّ، المتهوّرة واللاعقلانيّة.
(9) الجسر (Bridge): في الموسيقى الجماهيريّة، هي الوصلة التي تهّيء للعودة إلى المقطع الأصلي في المقطوعة.
(10) Cantus Firmas: لحن موجود سلفاً، يستعمل كالصوت الأساسي في المعزوفات متعدّدة الاصوات، بدأ استعماله في موسيقى القرون الوسطى الأوروبيّة الكلاسيكيّة.
(11) Minuetto: لحن وإيقاع راقصان نشأ مصطلحهما في وصف رقصة يعود أصلها إلى القرن السابع عشر في فرنسا. ولاحقاً، أدخل اللحن/ الإيقاع إلى الأوبرا، ومن ثم الموسيقى الكلاسيكيّة.
Scherzo: قطعة موسيقيّة أو حركة في سيمفونيّة أو سوناتا نشأت عن الـMinuet. يشير المصطلح إلى الحركة التي تستبدل الـMinuet كحركة ثالثة في عمل مكوّن من أربعة حركات، كالسيمفونيّة أو السونات، أو الرباعيّة الوتريّة.
(12) المسافات الصوتيّة (Intervals): المسافة التي تفصل بين طبقتي صوت (pitch).
(13) (Tonic triads): كورد يتكوّن من ثلاث نغمات موسيقيّة أو أكثر، تكون فيها العلامة الموسيقيّة الأخفض الأولى على السلّم الموسيقي. وهو ارتفاع (البيت) والذي تنتهي به المعزوفات الكلاسيكيّة والمقطوعات الجماهيريّة.
(14) Tin Pan Alley: الاسم الذي أطلق على تجمّع ناشري وكتّاب نيويورك الذين هيمنوا على الموسيقى الجماهيريّة في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين- See more at: http://www.ma3azef.com/node/214]#sthash.Rzsv9n87.dpuf